هيثم حميدان

 القرار ٢٢٥٤ وتاريخ المفاوضات في الأزمة السورية

 من تاريخ العالم الديبلوماسي

قبل التطرق إلى تاريخ المفاوضات ومسارها عبر عمر الأزمة السورية، قد يكون من الجيد إلقاء نظرة سريعة على قصة من قصص تاريخ التحالفات والصراعات والعلاقة بين المنتصرين والضحايا خلال الحروب وطبيعة الارتباطات المتبدلة بين الحلفاء ومواقفهم إضافة لما يمكن أن تحققه قوى مدعومة فقط بقدرات محدودة لقضاياها على أرض الواقع لربما تمكن المرء من استخلاص العبر.

ففي صيف عام ١٩٤٤ أصبحت المقاومة البولندية ضد الاحتلال النازي أمراً لا مفر منه. وكانت حكومة بولندة في منفاها البريطاني تدرك بأنها لا بد من أن تأخذ قرارا بالمواجهة ضد النازيين في وارسو، كما  كانت تدرك أن الشعب البولندي قاسى كما لم تقاسي شعوب دول التحالف وعواصمها، هذا لأن بولندة كانت في موضع لا يرحم استراتيجيا، كما هي حال سورية.

كان على البولنديين التفكر بين خيارين لا ثالث لهما، البقاء تحت نير الاحتلال النازي ببشاعته التي تفوق التصور أو الانتظار برعب، قدوم الاحتلال السوفيتي الذي لا يقل عن سلفه بشاعة، فلم تنسى الناس بعد احتلال السوفيات لشرق بولندا أثناء تحالف ستالين وهتلر ، ولم تجف دماء مجزرة كاتين بعد.

كان الأمريكان والإنكليز منشغلين بأشياء أخرى فالجيش الأحمر يهزم قوات هتلر في الشرق، وستالين كان حليفا أكثر أهمية لهم  من الحكومة البولندية في المنفى ومن الأفضل القبول براويات ستالين حول المجازر وإلقاء اللوم فيها على النازيين. ومن الأسهل  وأكثر نفعا للقوى الغربية القيام بتشجيع حليفهم البولندي على القبول أيضا بتؤيلاته  حول المجزرة وثنيهم عن الرغبة في هزيمة ستالين، بهذا الشان، أرادوا لهم الاعتراف بأن هتلر وليس ستالين هو من قام بقتل خيرة ضباط الجيش البولندي بالآلف، بخلاف الحقيقة، بل ذهب الحلفاء إلى أبعد من ذلك، إذ رغبوا  بأن تتنازل الحكومة البولندية عن شرق البلاد للاتحاد السوفييتي، عمل لا يمكن لأي حكومة ذات سيادة القيام به . بل و أقروه بالفعل عام ١٩٤٣، إذ وافقت لندن وواشنطن على الأمر. لقد تمت خيانة وارسو ليس من قبل ستالين وحسب، بل من قبل حلفائها، وتم منح نصف البلاد للسوفيات من دون مشاركة أصحابها أصلا.   كانت الحقيقة الوحيدة الباقية عام ١٩٤٤ تقضي بأن لا حلفاء غربيين للبولنديين، وبأن الشعب البولندي كان يقف وحيدا تماما.

كان الأمريكيان على بعد شهر من باريس،  ولم يكن هناك أية إمكانية لقواتهم لتحرير بولندة، وأي مقاومة للسوفيات يجب أن تكون بولندية صرفة.  بالفعل كان هناك مقاومة، توقف الجيش الأحمر  بانتظار أن يسحق النازيون البولنديين مرة واحدة والى الأبد بينما كان تشرشل يحثهم على ضرب التسويات مع ستالين، كذلك فعل روزفلت. لكنهم طلبوا للأمانة في  ١٦ آب من ستالين أن يساعد انتفاضة وارسو، فرفض ستالين ذلك واصفا تلك الانتفاضة بالمغامرة الحمقاء.

من الجيد أن يتذكر المرء أن بريطانيا كانت قد دخلت  الحرب العالمية الثانية دفاعا عن استقلال بولندة التي لم تستطع لاحقا حمايتها من حليفها السوفييتي. حتى الصحافة الإنكليزية بدأت بإعادة مقولة ستالين بوصف البولنديين بالمغامرين الحمقى، كما نعت الرئيس أوباما السوريون بالمزارعين وأطباء الأسنان أو مذيعي الراديو ممن لا يمتلكون الكثير من الخبرة في القتال كسبب للامتناع عن مساعدتهم عسكريا. وبعد سحق البولنديين، سمح ستالين للطائرات الأمريكية بقصف مواقع في بولندة وأوربا الشرقية انطلاقا من الاتحاد السوفييتي، ذلك لم يكن ليغير من مجريات الأحداث في وارسو، حتى أن ستالين أرسل بعضا من طائراته للمشاركة لاحقا.

لقد انقضى زمن الاتحاد السوفيتي وستالين تاريخيا، لكن بوتين يبدو قويا اليوم في سورية، وترك الغرب الساحة  للروس  ليبدوا و كأنهم يمتلكون رؤية ثابتة في السياسية الخارجية، لكن السر الحقيقي في قوة بوتين المفترضة هذ هي  في ضعف للولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي الواضح . فهما لم يتدخلا على مدى أربع سنوات في سورية إلا بشكل خجول، و فقط بعد أزمة اللاجئين الأوروبية ، وخطر الإرهاب الداعشي  وانخراط موسكو في تحالفات عسكرية. وكما ساندت إنكلتراة  وأمريكا استقلال بولندة سابقا أعلنتا وبأقوى العبارات موقفهما بضرورة رحيل نظام الأسد، لتغير الولايات المتحدة لاحقا مقاربتها من الصراع تحت وطأة الأمر الواقع والقبول بتقاسم الرؤى مع بوتين.

 

 المفاوضات في الصراع السوري وخلفيته الدولية

يبدأ تاريخ المفاوضات في مسار الأزمة السورية مع حلول آب من عام٢٠١٣، وذلك عبر مفاوضات جنيف بين قوى المعارضة والنظام. وكان من المعروف أن “جنيف “هي محاولة المبعوث الدولي، الإبراهيمي، لوضع  “المعارضة ” و “النظام” معا على طاولة التفاوض بهدف التوصل إلى تسوية، وقد باءت المحاولة بالفشل، لأن التسوية الديبلوماسية المتمثلة بجنيف وقت ذاك لم تكن ممكنة، فشروط الديبلوماسية ببساطة لم تكن ناضجة.

روسيا لم يبدر عنها في حربها البادرة على سورية حينها أي إشارات حول تغيير مقاربتها للصراع والذي يتطلب تغيير في بنية السلطة في سورية، كما تطلب المعارضة كشرط مسبق للدخول في التفاوض، وواشنطن لم تستطع نسيان تأكيدها مرارا على ضرورة رحيل الأسد والقبول بفكرة تقاسم السلطة، أما باقي الأطراف من دول وقوى فكانت غير مبالية بدعم التسوية في سورية ما لم تحفظ مصالحها عبر تقوية نفوذ الموالين لها على الأرض.

 

اليوم ما تزال الشروط اللازمة للديبلوماسية بين النظام والمعارضة أيضا غير ناضجة، لكن واشنطن، وعبر تصريحات جون كيري من موسكو في في ١٥ديسمبر من العام المنصرم ،  قررت تغيير مقاربتها للعملية السياسية في سورية بالفعل. فقد قال وزير الخارجية الأمريكي  عقب محادثاته المطولة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو: “إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير النظام الحاكم في سورية، وأن منظورها للنزاع “مشابه جداً في جوهره “لمنظور روسيا”. وبعد اتخاذ الروس سلسلة من المبادرات الخاطفة على الأرض بشكل مفاجئ ومرعب أحيانا للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أتى قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤  ليشير إلى ضعف الاقتراب الأمريكي من الأزمة السورية، ونجاح سياسة الخداع الروسية ذات النهج المعروف للجيش وجهاز المخابرات “كي جي ب” السوفياتي، والذي يهدف  إلى خداع الغرب وصرف انتباهه عن الأهداف الحقيقية .

ماذا يعني قرار مجلس الأمن اليوم لأطراف الصراع وبخاصة للمجتمعين في الرياض وهيئتهم التفاوضية العليا في ظل المقدمة التاريخية أعلاه. وماذا يعني ذلك القرار في ضوء تلك المقدمة  لبعض محلليه ممن يرغبون  في إضفاء بعض من التفاؤل عليه؟

الروس اليوم هم أشد التواقين لقطف ثمار نجاحهم الآني من الحرب السورية وبقرار من مجلس الأمن ذاته الذي ساهموا بتعطيله وفق تقنيات الحرب البادرة التي يبرعون في تنفيذها، وإذا كان الغرب يدرك الآن أن القدرة العسكرية الروسية في الحرب السورية لا يجب المبالغة في تقديرها، إلا إن روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن امتلكت وسائل عديدة  لوضع عوائق في درب سياسة الغرب الخارجية، وخصوصا أن التدخل العسكري الروسي في سورية لا يمكن تبريره إلا من خلال البوابة الأوكرانية، الجائزة الأكبر لروسيا وورقة تخفيف العقوبات عنها.

وهكذا دفعت التحالفات الروسية العسكرية  بالأطراف الغربية لبذل جهد أكبر في الأزمة السورية، ودفعت برعاة الحرب اليوم فيها كذلك إلى أن يقروا بأن التصعيد وصل إلى درجة خطيرة ويريد كل بدوره جني ثمار تدخله في سورية وتثبيت الوضع الراهن قبل فوات الأوان بدفع كل طرف لفريقه للجلوس إلى طاولة المفاوضات، إقرار ضمني لا يمكن أن ينسفه سوى التصعيد السعودي الإيراني الأخير.

إن القرار ٢٢٥٤ هو بداية لعملية تسويات إضافية بين الولايات المتحدة وروسيا وعليه لم تكف روسيا عن محاولة رسم الواقع على الأرض السورية عبر عملياتها العسكرية لرسم موازين القوى. لقد بدأت عملية ترسيم مناطق النفوذ في سورية ويخشى أن تصبح المعادلة، أن من يحكم يحدد عقيدة رعاياه في منطقة نفوذه. و لا يمكن أن يضمن وقف إطلاق النار سوى القوى الداعمة للفرقاء الساعيين إلى حصص من الكعكة السورية.

لقد طرح مسار فيينا نفسه كإطار دولي لحل الأزمة السورية بهدى بيان جنيف١، و بإطار ملزم للدول المدعوة عبر تبني قرار في مجلس الأمن بهذا الصدد. وقد ظهرت بوادر الوفاق بين موسكو وواشنطن في اجتماعات “مجموعة الدعم الدولية” حول ما يتعلق بالإرهاب والتصنيفات اللاحقة للقوى الموجودة على الأرض وتوزيعها في فصائل وتقييمها بين إرهابي وغير إرهابي. أما الدول المشاركة فقد أخذت تميل مع الهوى الروسي وقد أبقى مسار فيينا لقطر والسعودية وتركيا دورا مناوئا في مقابل التوجه الروسي وبدعم أمريكي غير معلن. وإذا كانت الرياض تقيس حرارة إيقاعها على الدور الإيراني وردعه، فان تركيا على ما يبدو لم يرق لها أن تضطلع بمهام مثل تصنيف الكتائب وتسهيل وقف إطلاق النار والتحضير لعملية تغيير دستورية. وما الاحتكاك التركي الروسي عبر إسقاط أنقره لطائرة حربية روسية وجر الناتو والدعم الأمريكي من خلفه، ما هو سوى تعبير عن ذلك الأمر ورغبة من أنقره بلعب دور أكبر، يراعي حجمها ونفوذها ومصالحها.

دخول واشنطن على الخط  بين روسيا وتركيا أعادها إلى لعبة الديبلوماسية على أمل نضوج شروطها بين الرعاة أنفسهم، قد يثمر ذلك عّن حل  لا يلبي طموح السوريين، لكنه قد يوقف بوابة التهام المزيد من الضحايا.

 

تفسير القرار ٢٢٥٤

 بينما تتدافع أطراف الأزمة كالنظام ورعاته والمعارضة وداعميها لتفسير القرار ٢٢٥٤ مع الاستعداد لبدء المفاوضات بين الطرفين برعاية دولية في جنيف. يصر البعض على أن نصوصه، والتي بقدر وضوحها في جوانب كثيراً مايكتنفها الغموض في جوانب أخرى، ذهب البعض إلى رؤية إيجابيته، كل من موقعه، وانطلاقا من ولائه لمكون سياسي معين.

إن أي محاولة  لتفسير القرار وخفاياه “الديبلوماسية” يجب أن لا تنطلق من استخدام عبارات القرار ذاتها لشرحه، بل من خلفية الوضع السياسي والدولي للصراع في سورية، بما أننا نتحدث عن التاريخ،  أو تبدأ بالتأكيد على البديهي مثل “صدر القرار بتوافق دولي بإجماع روسي أمريكي”، أو الحديث عن المراحل الزمنية بهدف إضفاء الإيجابية على القرار.

 لماذا يتوجب الحذر؟ لأن وظيفة الديبلوماسية بالتحديد هي التحذير من التفاؤل الزائف وبخاصة في هذه المرحلة. إن الروس والأمريكان ليسا اللاعبين الوحيدين في المعادلة السورية رغم أهميتهما، و عدم أخذ مصالح وضغائن باقي الدول المنغمسة في الحرب، بالحسبان، من شأنه أن يضرب العملية الانتقالية برمتها رغم صدور قرار من مجلس الأمن، ولنا عبرة في القرار٢٠٤٢ لعام ٢٠١٢ القاضي بإرسال فريق مراقبين لوقف إطلاق النار في سورية، قرار صادر أيضا عن مجلس الأمن دون الإشارة للفصل السابع. كما يفضل الابتعاد في هذه المرحلة عن تلك التحليلات التي تحاول تقويل القرار ٢٢٥٤ ما لم يقله، ثم العودة عن ذلك عبر إلقاء الضوء على بعض عباراته ومفردات “الديبلوماسية ” التي استخدمت “عمدا” كما يرى البعض في نص القرار. علما أن القرارات السابقة لم تتراجع عن بعض الصياغات المدخلة منذ بيان جنيف عام٢٠١٢ والذي دعا منذ البداية إلى عملية انتقال سياسي Transitionوليس تغيير سياسي Change  .

 إن هذه المرحلة من عمر الأزمة السورية يتطلب بالتحديد الابتعاد عن الأوهام وبيعها كما يتطلب تجنب تلك التحليلات المبسطة التي لا تسند إلى أي عمق فكري ونفسي أو أي قراءة معمقة لعمل مجلس الأمن في حالة مثل حالة القرار ٢٢٥٤ والمفاهيم التي تشكلها، وعلى رأسها مفهوم “التهديد”. بمعنى أن الدول ذات الفعل الحاسم والقدرة على إصدار قرارات ومتابعتها لا ترى التهديد من الزاوية نفسها، وهو بالذات ما يمنع استصدار قرارات في مجلس الأمن. في  الحالة السورية فإن ملامح التوافق بين الولايات المتحدة وروسيا لم تبدأ  بالظهور إلا بعد ان أخذت الولايات المتحدة برؤية التهديد بما يتماشى مع الرؤية الروسية له، أي قضايا الإرهاب وما يترتب عليها من تصنيف لقوى المعارضة قد تقود لوضع بعضها على لوائح الإرهاب الدولي.

وقف طلاق النار مقابل إنهاء العمليات العدائية

قد لا يتمكن البعض من التمييز بين مفهومي ” وقف إطلاق النار”  الوارد في متن القرار ٢٢٥٤ وبين ما قد يتمنون على ديبلوماسيي الدول الراعية لنص القرار إدراجه وهو عبارة ” وقف العمليات العدائية “، منطلقين من التفسير القائل: “إن وقف إطلاق النار هذا، والذي سترعاه الأمم المتحدة سيكون صعبا”، وتنبع الصعوبة وفقا لهم من  “هشاشة هذا الوقف”!. بالإضافة إلى أن تفسير قرارات الأمم المتحدة وخاصة القرار ٢٢٥٤ استنادا إلى النوايا بحجة أن” البعض يرغب باحتواء الأزمة السورية وإدارتها” هو عمل غير احترافي بامتياز ويدل عن سوء فهم، لا بل أحيانا على جهل بالتاريخ الديبلوماسي للعالم.

إن وقف إطلاق النار هو عملية إيقاف مؤقتة للحرب يتم بموجبها وقف الأعمال العدائية .لن تعتبر الدعوة في الحالة السورية لوقف إطلاق النار جزءً من اتفاق رسمي، بل ستتحصل بموجب تفاهم بين القوى المتقاتلة،  وهذا الوقف لا يمكن اعتباره هدنة كون الهدنة تنتج عن اتفاق رسمي لوضع حد للاقتتال. وهكذا فإن عملية وقف إطلاق النار، تتبع بهدنة على أمل إنجاز اتفاق سلام بين أطراف الأزمة

تعتبر الأمم المتحدة في كتيبها للتفاوض الفعال (المادة ٤٨) أن وقف إطلاق النار هو نوع من التفاهم المحدود المنظور مقارنة بالهدنة ولا يمكن اعتبارهما بأي حال من الأحوال نهاية للحرب، لأنه وفقا لقوانين لاهاي لتنظيم الحرب البرية يمكن استئناف القتال إذا تم إعطاء إشعار مسبق بذلك،مهما طالت مدة الهدنة المفروضة .

يمكن اعتبار الهدنة اتفاقا رسميا لوقف الأعمال العدائية يتم التفاوض بشأنه ليقود لاحقا إلى اتفاق سلام، الأمر الذي لا يمكن التوصل إليه في الحالة السورية قبل وقف إطلاق النار أساسا .إن أي اتفاق لاحق بعد” الهدنة ” خاضع للقانون الدولي، أما وقف إطلاق النار فلا يخضع له بل يجب التوصل إليه بحسن نية بين الأطراف، الأمر الذي تطالب المعارضة النظام به قبل الشروع في أي عملية تفاوض. وبينما يصر النظام على أن محاربة الإرهاب هو الهدف من العملية السياسية، ترى الهيئة المعارضة وفق مرجعيتها، وهي بيان الرياض، أن الحل سياسي ولا بد من توفير ضمانات دولية لعملية الانتقال السياسي التي هدفها إيجاد نظام دون أن يكون هناك ( دور لبشار الأسد وزمرته وأركان النظام مكان فيه)، رابطين ذلك ببيان جنيف وتنحي بشار الأسد كمقدمة لتشكيل مؤسسات الحكم الانتقالية، من دون أن تكون للمعارضة الطاقة على فعل ذلك بقدراتها الخاصة.

معضلة التيه الدائم بين التفاصيل التقنية للمفاوضات وغياب الاستراتيجية

يربط كل جانب من طرفي المفاوضات المزمعة هذا الشهر مستقبله بقدرتهما على تحقيق أهدافهما بالرغم من انعدام فرص ذلك المستقبل اليوم للقوى السياسية المعارضة، وهذا يصعّب من عملية إيجاد تسويات منطقية عند قيام مفاوضات علنية. من الواضح أن المعارضة السورية وهيئتها التفاوضية لم تأخذ الوقت الكافي لامتلاك أداة النجاح في الديبلوماسية ألا وهي التركيز على الفروقات بين أرائها الخاصة وأراء النظام وعلة وجود وطبيعة داعمي كل منهما وقدراتهم الذاتية، وبالأخص أزمة الوجود والشرعية التي تعتريها ومن ثم الحكم على الأصلح من هذه الآراء دون التعلق بحبال الوهم والكليشات الصادرة بعد اجتماعات ماراثونية واستبدال كلمات معينة بأخرى أو استجداء قرارات مجلس الأمن وبيان جنيف .

في حالة النظام فإنه من المتوقع إن ترك وشأنه من قبل داعميه، أن يقوم  وبكافة السُبُل بتجنّب إنجاز أي اتفاق إلا ضمن صيغ مبهمة تفسح له المجال لإنكاره أو فك ارتباطه به لاحقاً إن لم يحقق غايته، دون أن تمتلك المعارضة وهيئتها أي حيلة للدفع بالمفاوضات أو تحقيق إنجازات ملموسة للسوري العادي على أرض الواقع. تماما كما حصل في مفاوضات جنيف التي ركز فيها النظام على جعل محاربة الإرهاب مدخلا للحل.

إن فشل المفاوضات بالشروط الذاتية والموضوعية التي سيذهب إليها الطرفان، إن تركا لتدبيرهما الخاص، هو أمر مؤكد فهيئة التفاوض ما زالت اليوم مطالبة بأن يكون لديها فكرة حول المحاكمات الديبلوماسية للجانب الغربي والروسي والإيراني، وتصوراتهم لحل الأزمة عبر المفاوضات غير توجيه كلمات الإدانة والشجب، وإلا فإنها ستظل كما في السابق في خطر العيش في سلسلة من الأوهام يبعث بها البعض من الأيديولوجيين أو بعض مما يسمى شخصيات وطنية من أكاديميين وغيرهم أو بعض الطارئين من الجانب الآخر الذين يكثرون من تحليل بيانات مجلس الأمن وايجابياتها  باقتناع مذهل.

يعرف النظام تماما أنه من المحال في الديبلوماسية الحصول عن طريق التفاوض على أمر لا يستطيع أي طرف إنجازه بالجهود والقدرة الذاتية. فهيئة التفاوض المنبثقة عن لقاء الرياض لا تمتلك أن تؤثر في الدول الإقليمية التي تمتلك حصصا في الأزمة السورية، كمالا تستطيع التأثير في بعض الفصائل العسكرية المؤثرة أو قوى الجهاد العالمي أي لا تمتلك في أرض المعركة مقومات التفاوض والخروج بنتائج ملموسة على الساحة السياسية، بينما يتمتع النظام بأفضلية في ذلك. صحيح أنه، بدوره، ربما لا يستطيع التأثير المباشر في الدول الإقليمية التي تمتلك حصصاً في الأزمة السورية، إلا أنه (أي النظام) يمتلك بعض الروافع تجاهها ليؤثر في طريقة إدارته للأزمة ولو بشكل متناقص ومحدود مع تقدم عمر الأزمة.

بخلاف مفاوضات جنيف لم يعد هناك رمزية للمجابهة بين هيئة التفاوض وبين النظام فالطرفان إن هما ذهبا  إلى المفاوضات فهو للحديث عن السلطة وليس من المتوقع أن يسلم النظام السلطة على الإطلاق. بالفعل لقد اختارت المعارضة دائما الطريق الأسهل والأقرب إلى الفهم الشعبي للسياسية، وأفضل نقطة انطلاق بالنسبة لها كانت البدء دائما من مواقفها المعروفة، لأنه يطول الكلام حول ضرورة وقدرة جعل موقف المعارضة أفضل من موقف النظام على كافة الصعد، وبخاصة العسكري منها، ولأنها لم تبلور أي أداة فكرية تقترب بها من الأزمة السورية ولاعبيها سوى تلك المواقف .

من المقلق حقاً أن تتحول قصة أي مفاوضات مقبلة إلى قضية تقنية أكثر ما يتطلبه الأمر, وبالفعل هذا ما يستهلك جل وقت مجموعة الرياض التي تعتبر العلاقة بين بعض مكوناتها علاقة عدائية لا يمكن إصلاحها أو تقريب مواقفها والتزاماتها من خلال عدة ساعات من اللقاءات، وخاصة في ظل غياب استراتيجية حقيقة وواقعية للمعارضة أو بدائل تكتيكية تقترب بها من المفاوضات المقبلة والدول المؤثرة ولا سيما حلفاء النظام سوى بالإدانة والشجب.

إن قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ والمفاوضات المزمعة، بقدر ما هما طريق محتمل إلى تحقيق ما تصبو إليه المعارضة  على المدى البعيد، بقدر ما هما معبر لاستكمال تحلل وتفكّك المعارضة وشخوصها الحاليين، وبخاصة أن حل الأزمة السورية خاضع لاعتبارات تتجاوز المعارضة والنظام كلاهما معاً من جهة، ودخول عوامل أخرى غيّرت طبيعة الأمر الواقع في مثلّث الأزمة الحالية (معارضة–نظام–قوى الجهاد العالمي) من جهة أخرى. والأمر لا يدعو إلى التفاؤل عند الأخذ بعين الاعتبار أن بعض الشخوص اليوم في ما يسمى هيئة التفاوض فشلت فشلا ذريعا بالنظر سابقا إلى العملية كسيرورة تتطلب القوة والعزم وديبلوماسية مثابرة مقررة.

لقد امتلك الائتلاف مثلا في الماضي أثناء مؤتمر جنيف ٢ رفاهية الاهتمام بالشكل المتمثل بحضور المفاوضات في ٢٠١٣ أكثر منه بالمبدأ المتمثل بإسقاط النظام بالضربة القاضية وربما من الجولة الأولى. اليوم في زمن الدمار والدم لم تعد تمتلك المعارضة وهيئتها التفاوضية رفاهية الوقت وبخاصة أن بعض من فيها هم من رعاة وأسباب تطويل عمر معاناة الإنسان السوري. ولم تحسن التحلي بخفة الظل مقارنة بالطرف الآخر، ولا أن تجتنب المواجهات على أساس شخصي، أو أن تأخذ الأمور على محمل الجدّ لتبيّن موطن قوة وشرعية قضيتها، وتعاملت مع كل أمر ومنها المفاوضات القادمة على أنها حدث تاريخي خارق للعادة، دون ربط المعطيات بالاستراتيجية الكلية للغرب ولقوى الصراع في مواجهة بعضها البعض ولا أي وعي لمفاهيم مثل الترابط Linkage، أي أن حدوث تقدم على صعيد المفاوضات مع النظام كان من شأنه كذلك أن يسرع من الاستجابة لهموم القوى المتصارعة.

أما كل هذا الجدل الذي ينخرط فيه الجميع مجددا كما في السابق حول المفاوضات المزمعة داخلياً  ليس بمقدمات منطقية لديبلوماسية هدفها إنجاز اتفاق سياسي بل إطالة لعمر الأزمة، وتعقيد للأمور أكثر عن طريق تشويش الرأي العام الغير ملم تماما والغير مهتم حاليا لما يسمى ديبلوماسية، بسوء الفهم الذي يركز على الجانب التقني من المفاوضات.  فبينما ستذهب الهيئة للعليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض برفقة وفد مكون من ٤٥ شخصية لأجل ما سمته بمراقبة المفاوضات عن كثب ومعاينة  عمل وأداء الوفد المفاوض المكون من ٣٢ عضوا والذي خضع المستجدين فيه إلى جلسات تدريب!! يركز النظام على أولوياته: لا للتطرق لمقام الرئاسة ولا مرحلة انتقالية بل حكومة وحدة وطنية ولا تطرق إلى عملية إعادة هيكلة الجيش الخ!!

إن المعارضة وهيئتها التفاوضية غير قادرة على تحقيق ما تصبو إليه من إسقاط للنظام وانتقال للسلطة بقواها الخاصة. لقد كانت حظوظ المعارضة بالبقاء السياسي من عدمه تكمن في استثمار جنيف٢ والنظام معا عبر مسيرة ديبلوماسية جريئة وحصيفة بين أضلع أطراف مثلث الأزمة الداخلية السورية والتي جيء على ذكرها (معارضة–نظام–قوى الجهاد العالمي)، ديبلوماسية تعتمد العزم، مرسومة مسبقاً بشكل استراتيجي، وهذا لم يحصل أبدا  لتتمكن من التأثير في المفاوضات القادمة في جنيف ٣، وليست المعارضة اليوم في موقع المؤثر في مسار الأزمة أو عدم الخضوع للوصاية، وقد يكون القطار قد سبق المعارضة وهيئتها التفاوضية بالفعل لعدم بلورتها أداة فكرية لإنجاز مطالبها.

إن عملية السرد التاريخي سواء الدولي أو لتاريخ التفاوض في مسار الأزمة السورية هو للقول أن التاريخ  ليس سوى لأخذ العبرة ولا يصلح دليل عمل للمستقبل. فما زالت المعارضة والنظام مطالبين بأن يتذكرا مصير المدنيين، دون إغفال حقيقة أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق النظام في الضرر الحاصل للشعب السوري، وذلك دون إعفاء باقي قوى المعارضة السياسية والدينية من المسؤولية بالطبع، فلم تكن اليوم كل القوى ذات العلاقة تحارب على الأرض السورية لولا الحماقات السياسية المرتكبة. حيث تفضل القوى المنخرطة في الصراع السوري حاليا استثارة المكونات الدينية والطائفية في صراعها، لكن النظام كان من انتهج ذلك أولا وتبعته المعارضة.

بعد مضي عامين على الجلستين الأخيرتين من مفاوضات جنيف٢، لا يوجد عامل مستجد سوى أن التفاوض اليوم يجري في ظل قرار دولي تمخضته قوى ومنظمات دولية كثيرة عبر عملية فيينا بمشاركة الدول المؤثرة  إقليميا ودوليا تحت رعاية روسية- أمريكية، ذلك القرار هو التعبير عن المواقف التي يمثلها الصراع حول سورية واختبارا للتجاذبات ولموازين القوى، إنها حلقة مرتبطة من النزاعات التي تحكمها المصالح.  بعد اقتراب الأزمة السورية من عامها السادس يدرك السوريون اليوم بأنهم وحيدون تماما كما كان البولنديون من قبلهم، وبأن مصير سورية ليس بيد السوريين وحدهم،  إنما هو خلاصة للإجماع الدولي،  إجماع بين المنتصرين والضحايا.

ديبلوماسي سابق

المقالات المنشورة في هذه الصفحة تعبر عن اراء اصحابها ولا تعبر بالضرورة عن راي المنظمة Citizen Diplomats for Syria

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Start typing and press Enter to search